القُبلة المرّة

القُبلة المرّة

إلهة رهرونيا(نوشاد)

ترجمة: سارة محمدي

 

منذ سنوات، في ذروة الشعور بالوحدة، في تلك الأيام التي فقدتُ فيها والديّ على بعد مسافة قصيرة، وأصبح جميع أقاربي أعدائي فجأة، في سعيهم وراء المال اليسير والبيت المتهالك الذي ورثته. وبدلاً من الشعور بالتعويض والأمان، وجدت نفسي مدفوعة للانزواء والهرب خائفة.

لكنني مع ذلك، كنتُ أخفي مخاوفي ووحدتي وجروحي النفسية الغائرة خلف الابتسامات المنمّقة والضحكات المصطنعة.

كنت قد بلغت العشرين من العمر للتو. وكنت أدرس في السنة الثانية في مدرسة اللغات. لم أعلم زملائي بوفاة والديّ، خوفًا من مهاجمتي من الخاطبين الذين سيحاولون مواساتي ويدّعون توفير الأمان لي، أنا الشابّة الوحيدة. لقد تحطم قلبي من موقف أقاربي، وصرت أخشى الاقتراب من الغرباء واعترتني حالة هستيرية من الآخرين.

لقد كنت أترك دموعي في المنزل كل صباح وأنا مغادرة، أما إلى الجامعة أو المحكمة التي عرفت الطريق إليها، بعد أن أغلق عمّي وجدتي منزلنا، في محاولة لمصادرته والاستحواذ عليه.

أتذكر عدد الأيام المتبقية حتى نوروز. لقد أرعبني حلول العيد وسط صمت البيت المفزع. وذات يوم في كافيتريا الكلية، تحدثت لي فتاة قابلتها للتو، عن ضرورة السفر للاحتفال بنوروز، ثم جرنا الحديث إلى تفاصيل حياتها الخاصّة، وعلمت منها أنّها قد فقدت والديها مذ كانت طفلة، وعرفت اليتم والتغرب في سن مبكرة، الأمر الذي جعلني قريبة منها ومتعاطفة معها. كانوا جنوبيين من مدينة بهبهان.

نظرت إلي نظرة لطيفة وهي تبتسم:

ـ حسنًا. فلتأتي معي إلى بهبان.

فوجئت لمقترحها، وكنت قلقة. في الواقع ابتسامتها الحلوة تمكنت من زرع الطمأنينة في داخلي:

ـ لا. كيف أذهب معك؟ أنا لا أعرف عائلتك؟ ماذا سيقولون عني؟

اقتربت منِّي أكثر وما زالت ابتسامتها الحلوة مرتسمة على وجهها الأبيض الجميل:

ـ دعيني أخبرك شيئًا يا صديقتي. نحن الجنوبيين لسنا كذلك .لا نعبأ بمثل هذه التفاصيل الصغيرة. فلا تترددي ودعينا نذهب ونقضي وقاتًا ممتعًا. لدينا هناك أيضا حفل زفاف جديدًا. هل سبق لك أن حضرت حفل زفاف في الجنوب؟

كنت حزينة وقلقة في الواقع، وعجزت عن معرفة حقيقة مشاعري اتّجاهها. لكنّني كنت قد سمعت عن حفلات الزفاف الجنوبية والرقص وليالي الفرح التي تقام هناك. وبعد تردد وحيرة، دفعتني ابتسامتها ورقة توسلاتها للقبول، وكان الحماس يملأ قلبي.

في تلك الليلة اشترينا تذكرتي سفر، وبعد يومين، غادرنا إلى الأهواز بالحافلة.

كان اسمها “مريم”. وكان لديها شقيقان أصغر منها. الأصغر يبلغ من العمر سبعة عشر عامًا، والآخر يبلغ من العمر عشرين عامًا. وكان الجنوبيون طيبو القلب فعلًا، بالضبط كما قالت مريم، ولم أشعر بأية غربة. حتى أن الجميع من كبار السن أعطوني العيدية المتعارف عليها في مثل هذه المناسبات، ولم أكن قد حصلت على عيدية من قبل، حتى عندما كنت طفلة، وشعرت بسعادة غامرة وأطمئنان.

لم أرقص كثيرًا في أي حفل زفاف. كانت حفلات الزفاف الجنوبية أكثر إثارة من حفلات الزفاف الشمالية. كان الجميع يرقصون لدرجة أنه لم يكن لديهم حتى كرسي يجلسون عليه! يا له من شغف.

كنا في ألهواز ذات ليلة، ثم قررنا الذهاب إلى بهبهان ومنها إلى لورستان التي قضينا فيها يومين ممتعين. كنا نرتدي ملابس رياضية خفيفة ونلتقط الصور التذكارية بجانب أشجار النخيل وونبتات البابونج. وكان شقيق مريم الأصغر المسمى “أردافان” هو الثالث في المدرسة الثانوية. كان وسيمًا وطويل القامة وأظهر لياقة بدنية فائقة وبدا أكبر من عمره. وطول الوقت كان يمازح أخته مريم ويحكي عنها الطرف المضحكة ويركضان خلف بعضهما البعض:

ـ كم أنتما متعلقان ببعضكما البعض. أردافان، هل أتيت مع خطيبتك؟ يجب أن ترقصا معًا.

يا إلهي! كم مرّ الوقت مسرعًا، كنت اجلس أمام أردافان وأنظر إلى وجهه الفتي المشرب بالحمرة، كما لو كان وجه فتاة. لكنّنا كما لو أنّنا لاحظنا وجودنا توًا في تلك اللحظة، ولأوّل مرّة.

في إحدى الليالي، أحضر أردافان دراجة نارية وطلب مني الركوب خلفة. ترددت أوّل الأمر وشعرت بالخجل، لكن مريم شجعتني ونصحتني بأن لا أفوت هذه الفرصة، لأنّها لن تتكرر في حياتي. وأنا أحظنه من الخلف والريح تعبث بحجابي وتنثر شعري بجنون، شعرت بالبرق يومض في عيوني، على الرغم من أن الوقت كان ليلًا، وكان بردًا ودفئًا في الوقت نفسه. في إحدى الليالي في البيت الكبير، في غرفة المعيشة، وضعوا لنا فراشًا متجاورًا. كانت مريم تنام بجانبي بينما نام أردافان في الجهة المعاكسة، بحيث كانت وسادته على بعد بوصة واحدة من وسادتي. كانت مريم وأخوها الآخر نائمين بعمق. وفي منتصف الليل، وبينما كنت متأرقة ومضطربة في نومي، وقعت عيناي على أردافان الذي كان يراقبني.

قلت هامسة:

ـ أوه! لماذا أنت مستيقظ؟

أجابني هامسًا أيضًا:

ـ لا أستطيع النوم.

قال هذا وابتسم ببراءة وحدق في عينيّ. ابتسمت وأخذت نفسا عميقًا. قرّب وجهه بلطف شديد وقبّلني على شفتيّ. أنا أيضا لم أقاوم. كانت هذه أول قبلة حلوة في حياتي. قبل ذلك، كنت قد عانيت فقط من القبلات القسرية غير المرغوب فيها. وبينما كنا نغرق في نشوتنا وتعاقد لسانينا، صحتْ مريم على صوت أنفاسنا المتقطعة، وكانت متدينة، وحالما رأتنا، تصدع السقف وأمطرتنا بالشتائم:

ـ شكرًا لك! ليس ذنبك. بل ذنب مريم التي تحضر إلى المنزل كل من تصادفها في الشارع! عيب عليك. ألم تستحي من فعلتك المخزية؟!

أستيقظ الجميع على صوت مريم وأُضيئ المصباح وراح الكل يسأل:

ـ ماذا حدث؟ ماذا حدث؟

لم يعد بإمكاني سماع الأصوات، وانبعث طنين حاد في أذني. كنت متجمدة وارتجف تحت الغطاء خجلًا، وكان أردافان مثلي، قد انهار تحت البطانية وأخذ يرتجف. بعد بضع دقائق، انطفأت الأنوار مرّة أخرى، ولف صمت مرعب غرفة المعيشة. كان عقلي مشلولًا. لقد كانت صدمة كبرى بالنسبة لي لم أشهد مثلها في حياتي. كيف سأخرج من تحت البطانية غدًا؟ في تلك اللحظات، كان هذا السؤال هو الشيء الوحيد المهم.

حلّ الصباح أخيرًا. لم ينم أي منا. كما لم يقربني أردافان ثانية حتى الصباح. كنت أرغب في الذهاب إلى الحمام، وكنت أشعر بألم في المثانة. لكنني لم أجرؤ على مغادرة الغرفة. كان كل أملي في مريم وكنت أنتظر أن تستيقظ. وبينما هم يعدّون مائدة الإفطار، سمعت عمّة مريم تنادي:

ـ أردافان، تعال وتناول الإفطار.

عندها فقط خرج المسكين من تحت البطانية، وعندما رآني، أخفض بصره خجلًا وقال هامسًا:

ـ كنت خائفًا من الذهاب إلى الحمام!

ـ أنا أيضًا! اذهب أنت أولا.

منذ ذلك الصباح وحتى اليوم التالي، عندما ذهبنا إلى المطار، ثم وصولنا إلى طهران، لم تقل مريم كلمة واحدة لي. كما أنها لم تتحدث إلى أخيها. وخرجت بهجة الرحلة كلها من أنفي. فقط شقيق مريم الآخر لم ينظر إلينا مثل بقية أفراد العائلة، وكان متعاطفًا. وسأل مرة واحدة:

ـ وماذا الآن؟ لم ينقلب الكون!

لكن نظرة صارمة من عيني مريم أسكتته.

لقد تمثلت الألم في معدتي حتى لا أضطر إلى مواجهتهم على المائدة الطعام، وفضلت أن أجوع حتى اليوم التالي الذي سافرنا فيه، ولم أتحدث مع أردافان أبدًا بعد ذلك. كنا نغرق في الصمت طوال الرحلة، حتى وصولنا وخروجنا من المطار، ثم تفرقنا بصمت من دون أن يودع أحدنا الآخر. وكان هذا كل شيء.

ربما مزقوا صوري التي التقطتها معهم الآن. لا أعلم. ربما أكون قد سببت فعلًا بعقدة لأردافان المسكين!

لكن طعم قبلته ظل على لساني طوال العشرين سنة تلت، على الرغم من المرارة التي شعرنا بها ونحن نغوص راجفين تحت البطانيات بسبب العار.

مرارة القبلة الأولى لا تعوض.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إلهة رهرونيا

كاتبة وفنانة أداء وتشكيلية وصانعة أفلام. نصوصها وأفلامها ومشاريعها الفنية تنتقد بشدة النظام في وطنها. تقيم في فنلندا منذ العام 2010 . صدرت لها مجموعتان شعريتان ورواية.  تواصل كتابة الشعر والروايات والقصص القصيرة وكتب الأطفال منذ مغادرتها إيران. وترجمت عددًا من الأعمال الأدبية. حاصلة على بكالوريوس في الترجمة الإنجليزية من جامعة آزاد الإسلامية في طهران وشهادة في التصميم الداخلي من كلية الفنون الجميلة بجامعة طهران.

                                                                                       

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *